سورة لقمان - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (لقمان)


        


يقول الحق جل جلاله: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولُنَّ الله}؛ لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره، فيضطرون إلى الإقرار بذلك، {قل الحمدُ لله} على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم من شرك الأصنام، {بل أكثرهم لا يعلمون} إن ذلك يلزمهم إذا نبهوا عليه، ولم ينتبهوا، فالإضراب عن كلام محذوف، أي: فيجب عليهم أن يعبدوا الله وحده، لمّا اعترفوا، ولكنهم لا يعلمون، {لله ما في السماوات والأرض} ملكاً وعبيداً، {إنَّ الله هو الغنيُّ الحميدُ}، أي: الغني عن حمد الحامدين، المستحق للحمد وإن لم يحمدوه.
الإشارة: قد اتفقت الملل على وجود الصانع. ثم وقفت العقول في مقام الحيرة والاستدلال، وامتدت الأرواح والأسرار بأعناقها إلى معرفة الذات وشهودها، فمن وَجَدَتْ عارفاً كاملاً سلك بها الطريق، حتى أوقعها على عين التحقيق، فأشرفت على البحر الزاخر، فغرقت في بحر الذات وتيار الصفات، ثم رجعت إلى بر الشريعة لتدل غيرها على الوصول. وقل الحمد لله أَنْ وَجَدْتَ من يعرفك بالله، وأكثر الخلق حائدون عن العلم بالله.


قلت: {ولو أنما في الأرض}: مذهب الكوفيين وجماعة: أن ما بَعد {لو}: فاعل بفعل محذوف، أي: ولو ثبت كون ما في الأرض.. إلخ. ومذهب سيبويه: أنه مبتدأ، أي: ولو كون ما في الأرض واقع، و{البحر}: مبتدأ، و{يمده}: خبره، أي: يمد ما ذكر من الأقلام. و{من بعده سبعةُ أبحر}: مبتدأ وخبر. وحذف التمييز، أي: {مداداً}، يدل عليه {يمده}، أو {سبعة}: فاعل {يمده}، أي: يصب فيه سبعةُ أبحر، والجملة: حال، أي: ولو أن الأشجار أقلام، في حال كون البحر ممدوداً، ما نفذت... إلخ. وجملة {يمده}: خبر {البحر}. ومن قرأ بالنصب فعطف على اسم إن، وهو {ما}.
يقول الحق جل جلاله: {ولو أنّ ما في الأرض من شجرة} من الأشجار {أقلام}، والبحر يمد تلك الأقلام، يصب في ذلك البحر {سبعةُ أبحر}، وتلك الأقلام كلها تكتب كلمات الله الدالة على عظمته وكمالاته، {ما نَفِدَتْ} كلماته، ونفدت الأقلام، وجفت تلك الأبحر، وهذا كقوله: {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] مع زيادة المبالغة بذكر السبعة أبحر، يقال: مد الدواة وأمدها: جعل فيها مداداً، فجعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، والأبحر السبعة مدادها، وفروع الأشجار كلها أقلام تكتب كلماته تعالى، فلو قدر ذلك لتكسرت الأقلام وجفت الأبحر، قبل ان تنفد كلماته تعالى؛ لأنها تابعة لعلمه، وعلمه لا نهاية له.
وإنما وحدَّ الشجرة؛ لأن المراد تفصيل الشجر وتقَصِيها؛ شجرة شجرة، حتى ما يبقى من جنس الشجر، ولا واحدة إلا وقد بُريت أقلاماً. وأوثر الكلمات، وهي من حيز جمع القلة، على الكَلِم، الذي هو جمع الكثرة؛ لأن المعنى: أن كلماته لا يفي بها الأقلام؛ فكيف بكلامه الكَثير؟.
{إن الله عزيزٌ} لا يُعجزه شيء، {حكيم} لا يخرج عن علمه وحكمته شيء، فلا تنفد كلماته وحكمته. والآية جواب اليهود، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن قلنا: الآية مدنية، أو: أَمروا وَفد قريش أن يسألوه عن قوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]، فقالوا: هل عنيتنا أمْ قومك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «كُلاّ قد عنيت» فقالوا: أليس فيما قد أوتيت أنَّا قد أُوتينا التوراة، فيها علم كل شيء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «هي في علم الله قليل»، فأنزل الله: {ولو أنما...} إلخ.
ولما ذكر شأن كلامه وعلمه؛ ذكر شأن قدرته، فقال: {ما خلْقُكُمْ ولا بعثُكُم إلا كنَفْسٍ واحدةٍ}، أي: إلا كخلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة. فحُذف، للعلم به، أي: القليل والكثير في قدرة الله تعالى سواء، فلا يشغله شأن عن شأن، وقدرته عامة التعلق، تَنْفُذُ أسرع من لمح البصر.
قال الغزالي في الإحياء: ومن غريب حِكَم الآخرة أن الرجل يُدعى به إلى الله تعالى، فيُحاسب ويُوبخ، وتُوزن له حسناته وسيئاته، وهو في ذلك كله يظن أن الله لم يحاسب إلا هو، ولعل آلاف آلاف ألف مثله في لحظة واحدة. وكل منهم يظن ظنه، لا يرى بعضهم بعضاً، ولا يسمعه، وهو قوله تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة}. اهـ.
{إن الله سميع} لقول من يُنكر البعث من المشركين، {بصيرٌ} بأعمالهم، فيجازيهم.
الإشارة: أوصاف الباري سبحانه كلها كاملة، غير محصورة ولا متناهية؛ من علم، وقدرةٍ، وإرادة، وكلام، وغيرها. وأوصاف العبد كلها قصيرة متناهية، وقد يمد الحقُّ عبده بصفة من صفاته التي لا تتناهى، فإذا أمده بصفة الكلام تكلم بكلام تعجز عنه العقول، لا يقدر على إمساكه، فلو بقي يتكلم عمرَه كله ما نفد كلامه، حتى يُسكته الحق تعالى. وقد كان بعض السادات يقول لأصحابه، حين يتكلم عليهم: إني لأستفيد من نفسي كما تستفيدون أنتم مني، وذلك حين الفيض الإلهي. وإذا أمده بصفة القدرة، قدر على كل شيء، وإذا أمده صفة السمع؛ سمع كل شيء، وإذا أمده بصفة البصر، أبصر كل موجود... وهكذا. وهذه الأوصاف كامنة في العبد من حيث معناه، احتجبت بظهور أضدادها؛ صوناً لسِّر الربوبية. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جل جلاله: {ألم تَرَ أن الله يُولج الليلَ في النهارِ}؛ يُدخل ظلمة الليل في وضوء النهار، إذا أقبل الليل، {ويُولج النهارَ في الليل}؛ يُدخل ضوء النهار في ظلمة الليل، إذا أقبل النهار. أو: بإدخال جزء أحدهما في الآخر؛ بزيادة الليل أو النهار. {وسخَّر الشمسَ والقمرَ} لمنافع العباد، {كلٌّ}، أي: كل واحد من الشمس والقمر {يجري} في فلكه، ويقطعه، {إلى أجل مُسَمّى}؛ إلى يوم القيامة: أو: إلى وقت معلوم للشمس، وهو تمام السنة، والقمر إلى آخر الشهر. {وإن الله بما تعملون خبير}؛ عالم بكنهه، لا يخفى عليه شيء. فدل، بتعاقب الليل والنهار، أو بزيادتهما ونقصانهما، وَجَرْي النيرين في فلكهما، على تقدير وحساب معلوم، وبإحاطته جميع أعمال الخلق، على عظيم قدرته، وكمال علمه وحكمته.
{ذلك} شاهد {بأن الله هو الحقُّ}، وما سواه باطل، {وأن ما تدعون من دونه الباطل}؛ المعدوم في حد ذاته، لا حقيقة لوجوده. أو: ذلك الذي وصف بما وصف به، من عجائب قدرته وباهر حكمته، التي يعجر عنها الأحياء القادرون العالمون، فكيف بالجماد الذي يدعونه من دون الله؟ إنما هو بسبب أنه الحق الثابت الإلهية، وأن مَن دونه باطل ألوهيته، {وأن الله هو العلي الكبير}، أي: العلي الشأن، الكبير السلطان.
{ألم تَرَ أن الفلكَ}؛ السفن {تجري في البحر بنعمةِ الله} بإحسانه ورحمته، أو: بالريح، لأن الريح من نعم الله. أو: ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والمتاع، فالباء، حينئذٍ، للأرزاق، وهو استشهاد آخر على باهر قدرته، وكمال حكمته، وشمول إنعامه. {ليُريَكم من آياته}؛ من عجائب قدرته في البحر إذا ركبتموه، {إن في ذلك لآياتٍ} دالة على وحدانيته وكمال صفاته؛ {لكل صبَّارٍ} في بلائه، {شكورٍ} لنعمائه. وهما من صفة المؤمن. فالإيمان نصفان، نصف شكر ونصب صبر، فلا يَعْتَبِرُ بعجائب قدرته إلا من كان هكذا.
{وإِذا غَشِيَهُم}، أي: الكفار، أي: علاهم وغطاهم {موجٌ كالظُّلَلِ}، أي: كشيء يظل؛ من جبل، أو سحاب، أو غيرهما، فالموج الكبير يرتفع فيعود كالظلل؛ جمع ظُلة، وهو ما أظلك من جبل أو سقف. فإذا غشيهم ذلك؛ {دَعَوُاْ الله مخلصين له الدينَ}، لا يدعون معه غيره، لزوال ما ينازع الفطرة بالقهرية. {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقْتَصِدٌ}؛ مقيم على الطريق القصد، باقٍ على الإيمان، الذي هو التوحيد، الذي كان منه في حال الشدة، لم يعد إلى الكفر، أو: متوسط في الظلم والكفر، انزجر بعض الانزجار. ولم يَغْلُ في الكفر والعدوان. أو مُقْتَصِدٌ في الإخلاص الذي كان عليه في البحر، يعني: أن ذلك الإخلاص لحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط، إلا النادر، {وما يجحد بآياتنا} أي: بحقيقتها {إلا كل ختَّارٍ}؛ غدار.
والختْر: أقبح الغدر، {كفورٍ} لنعم ربه. وهذه الكلمات متقابلة؛ لفظاً ومعنى، فَخَتَّارٌ: مقابل صبّار، وكفور: مقابل شكور؛ لأن من غدر لم يصبر، ومن كفر لم يشكر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ألم تر أن الله يُولج ليل القبض في نهار البسط، ونهار البسط في ليل القبض، فهما يتعاقبان على العبد تعاقب الليل والنهار، فإذا تأدب مع كل واحد منهما؛ زاد بهما معاً، وإلا نقص بهما، أو بأحدهما. فآداب القبض: الصبر والرضا، والسكون تحت مجاري الأقدار. وآداب البسط: الحمد، والشكر، والإمساك عن الفضول في كل شيء. وسخَّر شمس العيان وقمر الإيمان، كلٌّ يجري إلى أجل مسمى؛ فقمر الإيمان يجري إلى طلوع شمس العرفان، وشمس العرفان إلى ما لا نهاية له من الأزمان. ذلك بأن الله هو الحق، وما سواه باطل. فإذا جاء الحق، بطلوع شمس العيان، زهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً. وإنما أثبته الوهم والجهل. ألم تر أن سفن الأفكار تجري في بحار التوحيد، لترى عجائب الأنوار وغرائب الأسرار، من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت؟ إن في ذلك لآياتٍ لكل صبَّار على مجاهدة النفس، شكور على نعمة الظَّفَرِ بحضرة القُدُّوسِ.
وإذا غشيهم،، في حال استشرافهم على بحر الحقيقة، موج من أنوار ملكوته، فكادت تدهشهم، تضرعوا والتجأوا إلى سفينة الشريعة، حتى يتمكنوا فلما نجاهم إلى بر الشريعة، فمنهم مقتصد؛ معتدل بين جذب وسلوك، بين حقيقة وشريعة، ومنهم: غالبٌ عليه السكر والجذب، ومنهم: غالب عليه الصحو والسلوك. وكلهم أولياء الله، ما ينكرهم ويجحدهم إلا كل ختَّار جاحد. قال القشيري: {وإذا غشيهم موج كالظلل}؛ إذا تلاطمت عليهم أمواجُ بحارالتقدير، تمنوا أن تلفظهم تلك البحارُ إلى سواحل السلامة، فإذا جاء الحقُّ بتحقيق مُناهم عادوا إلى رأس خطاياهم.
فَكَمْ قدْ جَهِلْتُمْ ثم عُدْنا بِحِلْمِنَا *** أَحِبَّاءَنَا كَمْ تَجْهَلُونَ وَنَحْلُمُ

1 | 2 | 3 | 4 | 5